هل تُفكر في دخول مجال علوم البيانات أو/و الذكاء الاصطناعي؟ هل قال لك قُصاص المواقع الاجتماعية أنها “مهن المستقبل” وتجلب اموالا كثيرة؟ خُذ الزبدة، فجلهم لا علاقة لهم بهذه المجالات أصلا وكلامهم وإن تخللته بعض الصحة فهو في جله مبني على أوهام وتصورات مشوهة. بالإضافة لكل ما تحدثنا عنه سابقا، من إيجابيات وسلبيات، اعلم يا مسلم أن أهم تحدٍ ستواجهه في هذا المجال اليوم هو أن فرص “المال الحرام” أكبر بكثير من فرص “المال الحلال”.. نعم، كما سمعت، الحرام سيُشكل جل الاختيارات المتاحة أمامك، وفرص الحلال على وجودها قليلة وولوجها أصعب، فاستعد.
كما أشتر، أنه في السنوات الأخيرة، أصبح مجال الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات يُقدَّم في المجتمعات العربية بوصفه “الدجاجة التي تبيض ذهبًا” من طرف القُصاص (من يسمون بالمؤثرين، وبالفعل لهم تأثير.. جله سلبي، على الأقل في هذا السياق)، إذ تكاد لا تخلو منصة من إعلانات الدورات ووعود “العمل الحر” و”الرواتب العالمية”، حتى صارت البرمجة وعلوم البيانات هي الحلم الجديد لجيل بأكمله يبحث عن فرصة “الهروب من الواقع”.
لكن، خلف هذه الوعود الوردية، هناك واقع مسكوت عنه: العوائق الأخلاقية والمنحدرات المالية التي تصطدم بها الغالبية العظمى من الداخلين إلى هذا الميدان.
أين يكمن التحدي الأخلاقي؟
أغلب الخريجين الجدد، أو من يغيّر مساره المهني باتجاه علوم البيانات والذكاء الاصطناعي، يُفاجأون بأن غالبية فرص العمل المتاحة لهم، خاصة في منصات العمل الحر أو الوظائف الدولية، تتركز في قطاعات مشبوهة أخلاقيًا ودينيًا، أو ذات طابع ربحي محض بلا قيمة مجتمعية حقيقية.
1. أمثلة واقعية من سوق العمل
- منصات العمل الحر:
جرب البحث بكلمة “Data Scientist” أو “AI Developer” في مواقع مثل “أبوورك” أو “فريلانسر”، وستجد نسبة كبيرة من المشاريع المعروضة تدور حول:- تطوير خوارزميات لمواقع المقامرة.
- تحليل بيانات لزيادة تفاعل المستخدمين في تطبيقات المواعدة والعلاقات المحرمة (جنس/زنا، وأشياء قذرة لا يصح حتى تلويث سمع القاريء بها).
- خدمات الدعم الفني أو التطوير التقني للبنوك الربوية أو منصات تداول العملات الرقمية عالية المخاطر (بما فيها حالات نصب موثقة).
- شركات دعاية وإعلانات تعتمد على العري أو التسويق للخمور ومنتجات محظورة دينيًا أو مجتمعيًا.
- عروض العمل (المحلية والدولية):
حتى في الإعلانات الرسمية، ستلاحظ وجود شركات تقنية تطلب محللي بيانات أو مطوري ذكاء اصطناعي لصالح قطاعات مثل القمار، أو خدمات “محتوى للكبار”، أو بنوك عالمية معروفة بتعاملاتها الربوية.
2. الإشكالية الأكبر: أجر أعلى مقابل قيم أقل
غالبًا، تعرض هذه الشركات رواتب أعلى بكثير من مثيلاتها في المجالات الصناعية أو الخدمية النافعة، وهو ما يدفع الكثيرين للانخراط فيها مضطرين أو طمعًا، خاصة مع ضعف سوق الصناعة في بلداننا، وضآلة الأجور في شركات التكنولوجيا الناشئة المحلية.
- مثال توضيحي:
خريج جديد في المغرب (أو السعودية، مصر،.. الخ) قد يجد عرضًا للعمل كمحلل بيانات في شركة أجنبية تدير موقع قمار، براتب يعادل خمسة أضعاف متوسط راتب محلل بيانات في شركة صناعية محلية، مع فارق نوعية العمل، والاستقرار المهني، والأثر الأخلاقي.
لماذا هذا الخلل في السوق العربي؟
- ضعف البنية الصناعية والإنتاجية:
أغلب اقتصاديات البلدان العربية تعتمد على القطاعات الخدمية (تجارة، سياحة، بنوك، اتصالات)، وهي قطاعات تُقدم خدمات ولا تنتج منتجات حقيقية أو تقنيات أصلية. لذلك، تندر فرص العمل في الشركات الصناعية التي توظف مختصي الذكاء الاصطناعي أو علوم البيانات في مشاريع نافعة ومشروعة. - غياب ثقافة الاختيار الأخلاقي في سوق العمل:
كثير من الأكاديميين ومسوقي الدورات يتجاهلون عمدًا الإشارة لهذه الإشكالية، ويركزون فقط على المهارات والرواتب، دون أن يوضحوا للمتعلم أو المقبل على المجال أن “نوع العمل” و”جهة العمل” أهم بكثير من “عدد المهارات” و”حجم الراتب”. - الإغراءات السريعة على حساب القيم:
بسبب الفجوة الكبيرة بين العروض المشروعة والعروض المحرمة، يواجه الشاب خيارًا صعبًا:- إما عمل حلال بأجر متواضع وضمن سوق صغير.
- أو عمل محرم/مشبوه بأجر مغرٍ وسريع.
ماذا عن الشركات النافعة والمشروعات المشروعة؟
- نعم، توجد شركات صناعية/بحثية محترمة في مجالات الطاقة، والزراعة، والطب، والصناعة التحويلية… لكن غالبًا ما تكون قليلة العدد، وتشترط خبرات عالية أو مهارات متخصصة غير متوفرة إلا بعد سنوات من العمل المتواصل والدراسة الجادة (وليس فقط دورات “شات جي بي تي” أو “كورس سريع على يوتيوب”!).
- كثير من هذه الشركات في بلدان غير عربية، وتتطلب إما الهجرة أو التفرغ التام مع ثقافة عمل مختلفة تمامًا.
قد تجد من يقول: “هناك أيضًا شركات تقنية تقدم منتجات نافعة وفرصًا جيدة!” وهذا صحيح.. لكن غالب هذه الشركات صغيرة جدًا، أو شركات كبيرة (الحجم الكبير للشركات لا يعني بالضرورة أجورا جيدة)، وقد تجدها تنشط في أكثر من مجال في نفس الوقت او في مجالات فرعية ضمن مجال كبير كالطاقة، والزراعة، والطب، والصناعة التحويلية… لكن غالبًا ما تكون قليلة العدد، وتشترط خبرات عالية أو مهارات متخصصة غير متوفرة إلا بعد سنوات من العمل المتواصل والدراسة الجادة (وليس فقط دورات “شات جي بي تي” أو “كورس سريع على يوتيوب”!)… وهذا له أسباب يطول شرحها، وكلها بالمجمل يدور حول “العوائد”. (هل تظن أن تطبيق تعليمي يحصل على عوائد مماثلة لما يحصل عليه تطبيق مواعدة جنسية، مثلا؟ ولا حتى 1% يا صاحبي، هذا واقع يعرفه أصغر مطلع على ما اناقشه هنا).
نأتي للمهم.. كيف تُقرر؟
شوف، لن أكثر عليك في هذه الجزئية، بل هي بضعة نقاط مختصرة ومباشرة:
- فكّر في المسار المهني بموضوعية:
لا تغتر بكثرة الدورات والشهادات. اسأل دائمًا: من هم أصحاب الأعمال؟ ما نوعية المشاريع التي يعملون عليها؟ - ابحث عن الشركات الصناعية والبحثية مبكرًا:
وحاول اكتساب المهارات العميقة (حل المشكلات، فهم البنية التحتية للمشروعات الصناعية/الزراعية/الصحية). - أحذر الانخراط في مشاريع مشبوهة ولو براتب مغرٍ:
“من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه”، لا تجعل المال السريع يغريك، فغالبًا لن تبني عليه سيرة مهنية محترمة ولا راحة نفسية مستدامة. - لو كنت ولي أمر:
ساعد أبناءك (او أقرباءك) على تقييم العروض بميزان القيم، لا فقط بميزان الأرقام؛ ناقشهم في واقع السوق، وافتح أمامهم أبواب الاستشارة مع أهل الخبرة الموثوقين في الداخل والخارج.